فعل الاحتفال بين الممكن والمحال-د.عبد الكريم برشيد -المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
 أنا الموقع أعلاه

فعل الاحتفال بين الممكن والمحال

في كتاب (الأغاني) للأصفهاني نجد أعرابيا دخل المدينة بعد العيد، ولدهشته قال (دخلت بعد عيد الأضحى، فإذا أنا بجمع عظيم عليهم أنواع من الثياب من بيض وحمر وصفر، فكأنها زهر البستان، فقلت في نفسي، هذا العيد الذي يذكر أصحابنا أن الحضر يتزينون فيه، ثم رجعت إلى عقلي، فقلت: وأي عيد هو؟)


إن العيد هو الغنى المتجدد، وهو احتفال الطبيعة وتبرجها أولا، سواء من خلال أشكالها وألوانها، والتي ليس لها عد ولا حصر، أو من خلال أضوائها وظلالها، وهو احتفال الإنسان ثانيا، سواء من خلال تجديد الزي، وتجديد الإحساس، وتجديد الفعل والانفعال، وتجديد الحالة، وتجديد العلاقة بالطبيعة، وبالناس والأشياء وبالكلمات والعبارات.
هذا العيد الاحتفالي، يحتاج بالتأكيد إلى الهواء، تماما كما يحتاج إلى الشمس وإلى الضوء، ويحتاج لأن تكون الأرواح عارية وصافية ومتلألئة، وأن تكون كل الأستار الكثيفة مرتفعة، إن الأقبية السرية، والكهوف المظلمة، والأنفاق المعتمة، والتي لا يدخلها الهواء ولا الشمس، لا يمكن أن تكون فضاء حقيقيا للاحتفال الحقيقي.
لقد قالت الاحتفالية (الحفل أصدق أنباء من الكتب)1
وقالت أيضا، إن (الشعوب تخبئ عبقريتها في الاحتفال) 2
ومن طبيعة هذا الاحتفال ـ كما تتمثله الاحتفالية، وكما تحياه أيضا ـ أن يكون له معنى (المصالحة مع الذات) 3
وأن يكون شكلا من أشكال (استرداد للوعي المقموع والمصادر) 4
وأن يكون قبضا (على جمر الزمن الضائع أوالمضيع) 5
وأعتقد أن من حق العاشق أن يتغنى بمعشوقه في كل حين، ونحن أهل الاحتفالية، ونحن أحبابها ورفاقها وعشاقها اليوم، لا شيء يسعدنا، أويطربنا، أكثر من التغني بسحرها وجمالها، ولا شيء يمنعنا من الانجذاب إليها، ولا شيء يغرينا ويغوينا إلا نورها الشفاف، ولا شيء يدفئ صدرنا إلا نارها الملتهبة، ولا شيء يثير دهشتنا وفضولنا إلا أسئلتها الحارة والجديدة والمتجددة دائما، ولا شيء يحرضنا على السفر والترحال غير طريقها الذي يبدأ ولا ينتهي، والذي يعد بالغريب والجديد، والذي يعد بالمثير وبالمدهش دائما، والذي فيه من المخاطر أكثر مما فيه من النجاة.
أيكون معنى هذا أن هذه الاحتفالية هي نحن، ونكون نحن هي الاحتفالية؟ من حيث ندري أو من غير أن ندري، ومن غير أن يعرف أي أحد بذلك؟
من يدري، قد يكون ذلك عين الحقيقة وعين العقل، ويكون عين المنطق والصواب، وقد لا يكون. 
والتغني بها ـ كما قد يفهم البعض، ألا يكون ذلك وجها من وجوه النرجيسية، ويكون عنوانا على عشق الذات، أكثر من عشق الموضوع ؟ وهل هذه الاحتفالية موضوع خالص، مستقل بذاته عن كل الذوات الملتحمة به، والمندغمة فيه لحد التماهي والتوحد؟
جوابا على هذه التساؤلات أقول:
ـ لست أدري، ولا أريد أن أدري، وشيء من الغموض، في مثل هذه الحال، مستحب ومطلوب، خصوصا إذا كان هذا المطلوب ـ المعشوق، أعز ما يطلب، وكان في حجم الاحتفالية، وكانت هذه الاحتفالية بحجم الكون، وكانت بكل ألوان الطبيعة، وكانت بعمق الوجود، وكانت بطعم الاندهاش الطفولي، وكانت بطول التاريخ وامتداده، وكانت بسحر الجمال المطلق..
إن هذه الاحتفالية لا تقف عند حدود المغامرة الشكلية، ولا يهمها أن تكون فرجة مبهرة، ولا شيء غير ذلك، والأساس فيها هو أن تؤسس تجربتها الوجودية أولا، ابتداء من الآن ـ هنا، وأن تعي هذه التجربة، في حالاتها ومقاماتها ثانيا، وأن تقبض على الثوابت والمتغيرات في اللحظة التاريخية ثالثا، وأن تفلسف هذا الوجود التاريخي رابعا، وأن تخرج به من حال الخفاء إلى حال التجلي خامسا، ومن درجة الكمون إلى درجة الظهور.
إن الاحتفال هو فعل مادي محسوس، وهو بهذا مظهر فقط، وذلك لحالات وجودية ووجدانية باطنية، ولهذا فقد كان الشق الأكبر والأخطر في الاحتفالية هو شقها الجواني، وهو جانبها النفسي والعقلي والروحي، والذي يجعل منها تجربة صوفية بامتياز، وذلك قبل أن تكون مجرد طقوس، أو تكون مجرد تقاليد، أو مجرد مظاهر احتفالية وعيدية مختلفة.
إن هذه الاحتفالية، هي أساسا (رؤية فكرية وجمالية، وإرث معرفي وحضاري، وإضافة نوعية لرصيد المتخيل الإنساني، إنها رؤية تقوم على تمجيد قيم الحياة والحرية والجمال والعدالة والتعدد والديمقراطية، وهي لذلك التزام مع الإنسان في جوهره وحقيقته، لهذا فقد خاصمت كل أشكال الانغلاق والتحجر والتقوقع، واختارت أن تتحرك خارج دائرة التصنيفات الضيقة، الاجتماعية والعرقية والحزبية والشعوبية والمذهبية) 6
ثم إن هذه الاحتفالية إبداع، وأساس الإبداع هو الحرية، وهو فعل التحرر الذي يسكنه ويؤسسه، ولقد قال الاحتفاليون (فقد حررتنا الاحتفالية من كل أشكال وألوان التبعية، لقد حررتنا من الجاذبية الماركسية، وذلك عندما كانت الماركسية هي كل شيء، وحررتنا من الوجودية، ومن كل التيارات الفكرية المختلفة) 7
هذه الاحتفالية الأفق،  يظنها البعض قريبة، وهي بعيدة جدا جدا، وتتخيل بعض الأذهان أنه من الممكن جدا الوصول إليها، وتتعدد العيون التي تراها، أو تظن أنها تراها، وتتنوع زوايا النظر إليها، ويختلف حولها المختلفون، وتنبت على هوامشها التفسيرات والتأويلات، ويجرب المجربون كثيرا من أدوات الاشتغال النقدي، وتتم الاستعانة بكثير من الحقول المعرفية والعلمية، ولكن الأفق الاحتفالي ـ ومع كل القراءات، ومع كل التفسيرات المتعددة والمتنوعة ـ لا يزداد إلا بعدا، وهذه الاحتفالية، اللغز، يتم النظر إليها بكل العيون، بعين إيديولوجية مرة، ومرة أخرى بعين فلسفية، أو بعين سوسيولوجية أو بعين أنتربولوجية أو بعين سيكولوجية، وبهذا يتم إلباسها الزي القومي العروبي مرة، ويتم إلباسها الزي الديني الإسلامي مرة أخرى، كما يتم إلباسها الزي الأوروبي والغربي، أو الزي الأسيوي الشرقي، مع أنها دائمة التأكيد على النحن وعلى  الآن وعلى الهنا، وعلى المعيش اليومي، وعلى أن يكون لهذه النحن معناها الإنساني والكوني الشامل، وليس معناها الإقليمي والجهوي أو العرقي أو الشعوبي الضيق، ويقول الاحتفاليون (إنه في مجال الإبداع لا مجال للوسط، فإما أن تكون سابقا للعصرأو متخلفا عنه ولقد اخترنا أن نكون في المقدمة، وليس في المؤخرة) 8
وهذه الاحتفالية الأفق، أو الاحتفالية الموعودة، لا يمكن أن تتحقق اليوم أو غدا، وذلك لأنها حلم أولا، وأن هذا الحلم قد أصبح في مستوى المشروع، وأن هذا المشروع قد أصبح ورشا مفتوحا، وعليه، فإنه لا يمكن لأي أحد أن يتنبأ بنهاية الأشغال في هذا الورش (هذه الاحتفالية الموعودة، مشيت / مشينا إليها عبر طريقين اثنين: طريق التنظير، وفي التنظير يحضر العقل والمنطق، ويحضر التفكير والتدبير، وطريق الإبداع، وفي الإبداع يحضر الحلم والوهم ويحضر الخيال والوجدان) 9
إن العين الإيديولوجية، هي التي انتظرت من الاحتفالية أن تكون فعلا تبشيريا، وأن تختار معسكرها العقائدي، وأن تتخندق فيه، وأن تعلن عن لونها الحزبي، وأن تلتزم به، وأن تدافع عنه، بالحق أو بالباطل، وأن تنتج نصوصا أدبية وفنية وفكرية جافة ومحنطة، وأن تنتج إبداعا أحادي التوجه، وأحادي الرؤية، وأحادي المعنى، وأحادي الموقف، وأن تستنسخ النموذج المثالي، وأن تلتزم به، وأن تروجه، وأن تبشر به، وألا تنحرف عنه أو تحرفه، وفي مقابل هذه النمطية الفكرية والجمالية، كان الاحتفالي يردد دائما (أومن بأنني احتفالي الرؤية. إنني لا أومن بالثنائيات، الخير والشر، لست أخلاقيا، لا أومن بالصواب والخطأ، لأنني لست مدرسيا، لا أقول الأشياء تحمل أسماءها في داخلها، ودائما أردد كلمة «قل كلمتك وامش» فليس من مهامي أن أؤرخ لتجربتي، المهم أن أصنع هذه التجربة، الأسماء ولعبة الأسماء هي لعبة النقد المدرسي والمؤرخين وذلك ليس شغلي) 10   



  الهوامش:
1 ـ البيان المغاربي للمسرح الاحتفالي - باجة - تونس 1988
2 ـ ع. برشيد - الصعود إلى فلسطين - مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء - 2004 - ص 137
3 ـ المرجع السابق نفسه - ص 136
4 ـ المرجع نفسه
5 ـ المرجع نفسه
6 ـ محمد محبوب - بيان الاحتفالية في أفقها المتجدد - الاحتفالية بأصوات متعددة - كتاب جماعي - مخطوط
7 ـ ع. برشيد - كتابات على هامش البيانات - ص 45
8 ـ ع. برشيد - الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة - ص 94
9 ـ المرجع السابق نفسه - ص 38
10 ـ ع. برشيد - برنامج (روافد) لعلي الزين - (قناة العربية)
  د.عبد الكريم برشيد -المغرب (2011-07-28)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

فعل الاحتفال بين الممكن والمحال-د.عبد الكريم برشيد -المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia